العقول الكبيرة تناقش الأفكار والمتوسطة تناقش الأشياء أما العقول الصغيرة فهي التي تناقش الأشخاص
الثلاثاء، 25 يناير 2011
يوسف الصادق: ملك ملوك التناقض وخطاب العار
من المتعارف عليه دبلوماسياً أن يُبارك قادة ورؤساء العالم أي إختيار شعبي في أي دولة ويحترموا إرادة الشعوب حتى وإن كان ذلك متعارضاً مع مصالح تلك الدول، ذلك ما فعله حتى أكبر حلفاء بن علي وأعني فرنسا وأمريكا وهذا بالطبع لا ينطبق على من تنقصه اللباقه وكذلك اللياقه الدبلوماسيه مثل العقيد القذافي الذي تعدَّى حدود الأدب في خطابه الذي زعم أنه وجهه إلى الشعب التونسي، ما دفعه إلى ذلك التعدي هو الفزع والرعب من أن تتحول هذه الإنتفاضه الشعبيه إتجاه ليبيا، فقد بدأ ذلك الرعب واضحاً في توتره الشديد عند إلقاء الخطاب وهو يعلم أن َّ ما عمله بن علي في شعبه لا يصل مِعشار ما يعمله هو في الشعب الليبي.
تأكيدًا لما ذكرته في مقالة سابقة فإن المرء لا يحتاج مراجعة الكثير من تصريحات القذافي وخطاباته ليلاحظ التناقض الشديد بينها والذي يظهر حتى في الخطاب الواحد. لقد أشاد في الخطاب بإنجازات تونس في عهد بن علي وضرب مثلاً بقطاع الصحه وذكر بأن آلاف الليبيين يذهبون للعلاج هناك، معترفاً بذلك بتدهور هذا القطاع في ليبيا ومتناسياً أنه كان يجادل المتسولات أمام المساجد في ليبيا أسابيع قليلة مضت أنه بإمكانهم العلاج بالمستشفيات الليبيه بدل تسول ثمن العلاج!!. في نهاية الخطاب وعندما تكلم عن الفساد، قال أن التونسي لا يملك إلاّ زيتونتين و عنزتين فكأنما نسي إشادته بالإقتصاد التونسي والتقرير الذي كان يسرده قبل ذلك بعشر دقائق والذي يُبيِّن وضع تونس الممتاز جداً (حسب تعبيره) في التنميه والإنتعاش الإقتصادي، وأنها صنِّفت الأولى مغاربياً وأفريقياً والرابعة عربياً في تقرير منتدى دافوس، وأنها تسبق حتى الدول النفطية!! فهل نصدق الجزء الأول من الخطاب أو الأخير؟ طبعاً الأجدر رميه في القمامة بأكمله.
بدأ واضحاً أن القذافي كان يتحدث عن نفسه ويخاطب الشعب الليبي بقوله أنه لن يُصدِّق هتافاتهم بعد ثورة تونس. يبدو أنه لا يتعلم من دروس التاريخ مطلقاً، فالذين كانوا يهتفون بحياة بن علي ليسوا هم أصحاب الثورة، وإنما هم نفس الفئة التي كانت تهتف بحياة أبورقيبه حتى اليوم السابق لسقوطه بإستيلاء بن علي على السلطة، تحولوا بعدها مباشرة للهتاف بحياة بن علي، وهؤلاء إستمروا بذلك الهتاف بل وواجهوا الثوار بمظاهرات مضادة حتى اللحضات السابقة لِفرار بن علي، ثم إختفوا بعد ذلك تماماً، ولعلهم يستعدُّون الآن بتأليف الشعارات التي سيهتفون بها للحاكم القادم، فهم الفئة الطفيلية التي تقف مع المنتصر ولا تُشارك في صنع الأحداث، بل تؤقلم نفسها مع أي وضع لتعيش أيما حياة. هؤلاء كالأغنام تصيح عندما تجوع لتستجدي لقمة تحافظ بها على حياتها الذليلة. الذين قاموا بالثورة وأجبروا بن علي على الفرار بعد أن واجهوا رصاص زبانيته بصدور عاريه هم أصحاب الكرامة والشجاعة وهؤلاء كالأسود لا تُسمع أصواتهم إلاّ عندما يزأرون لإخافة من يحاول التعدي على مقدراتهم.
لقد إستنكر القذافي قبول الشعب التونسي التضحيه بستين شهيداً مقابل حريتهم ولم يستنكر على بن علي قتلهم وهم عزّل، فهو بذلك يعبِّر عن قناعته التامه أنّ من حقه والطغاة أمثاله أن يقتلوا أي عدد من أبناء الشعب للدفاع عن كراسيهم. لقد ضحى الشعب الليبي بأكثر من ضِعف ذلك العدد في الحادث المفتعل لطائرة الخطوط الجوية الداخليه بنغازي ـ طرابلس المنكوبه، وضحي بألف ومائتي شهيداً من خيرة شباب ليبيا في سجن أبوسليم في ثلاث ساعات فقط وكل ذنب هؤلاء أنهم طالبوا بأدنى حقوقهم في السجن، وضحى أيضاً بالمئات غير هؤلاء في السجون وإعدام الطلبه في الجامعات ومسلسل الإعدامات بشهر رمضان المبارك، وكذلك بالآلاف كل سنة في حوادث السير نتيجة إستخدام سيارات غير ذات صلاحيه وتفتقر إلى أبسط وسائل الأمان. كل ذلك دون ثمن.
أشار القذافي أنه كان الأجدر إبقاء بن علي في الحكم وحثه على محاربة الفساد ومحاكمة اللصوص حتى لو كانوا أقاربه. هل يستطيع القذافي أن يبدأ هو بذلك فيحاكم نفسه عن تبديد ثروة الليبيين وإزهاق أرواحهم، وكذلك محاكمة أبنائه عن الأموال التي سرقوها من ثروة الليبيين وسوء إستخدامهم للسلطة المستمدَّة منه. أعتقد أنَّ ذلك من المستحيلات، فنحن نعلم ردَّة الفعل التي حدثت ضد سويسرا لمجرد أنَّ أحد أبنائه أُوقف لمحاكمته بسبب جناية إرتكبها هناك ونتذكر أنه إستعمل سلاح النفط والذي لم يُستعمل حتى في حرب غزة، وكذلك إيقاف مجموعة من السويسريين في ليبيا للضغط على سويسرا حتى رضخت، والأمر تكرر عند محاولة إيقاف أحد الأبناء في فرنسا في جناية مشابهه. في الوقت الذي أُستخدمت فيه مقدرات الدولة الليبية كاملة وكذلك المخاطرة بالعلاقات السياسية مع دول أُخرى لمنع توقيف ومحاكمة أحد الأبناء في الخارج بسبب جريمة نسبياً أقل مما يرتكبونه في الوطن فكيف يمكن أن نصدق أنهم سيُحاكمون في ليبيا. إذا صدقت النية في إمكانية محاكمتهم، فلماذا أُطلِقت أيديهم للفساد أصلاَ. والحال كذلك فليس من سبيلٍ للشعوب إلاّ الإقتصاص بنفسها لنفسها.
فيما يتعلق بمحاولة الإقلال من نتائج ثورة تونس بأنهم ضحوا بأبنائهم ليتولى رئيس آخر السلطة ويتحول إلى بن علي آخر، فإنه يعلم تماماً أنه لن يجرؤ أي رئيس الإقدام على ما أقدم عليه بن علي بعد هذه الثوره، وخاصة عندما يُعدَّل الدستور لتحديد صلاحيات الرئيس. إن كان يعتقد بما يقوله في خطابه فبماذا يُفسِّر الأموال الليبية الطائلة التي أُهدِرت لتمويل الثورات في نيكاراجوا وغيرها من دول أمريكا اللاتينيه ودول أفريقيا وغيرها من دول العالم في السابق وكانت كلها مساندة لإنقلابيين للوصول إلى السلطة بدل رؤساء سابقين، وبماذا يُفسِّر مساندته وتمويله لأحداث قفصه في ثمانينات القرن الماضي بذات البلد تونس. تفسير هذا التناقض هو إمَّا نتيجة عدم نضج سياسي في السابق (وهو الذي كان يعتبر نفسه نابغة في السياسة منذ عمر الخامسة عشر)، والإحتمال الآخر هو نتيجة خرف هذه الأيام، والواقع نتيجة كليهما.
بعد إستعراض إنجازات بن علي التي حققها في 23 سنه، هل بإستطاعة القدافي أن يُقنع الليبيين بإنجاز واحد بعد 41 سنه يستحق به أن يحكم ليبيا مدى الحياة. ما الذي منع ليبيا أن تحتل مكاناً أفضل من تونس في التصنيف العالمي للتنمية الإقتصاديه مع أن ليبيا دولة نفطية، وهل بإستطاعته تفسير إتجاه الليبيين بالآلاف للعلاج في تونس والأردن ومصر وغيرها من دول العالم غير أن قطاع الصحة في ليبيا يحتضر، وكذلك الحال مع التعليم وغيرها من القطاعات. إن التخريب الذي حدث في ليبيا في أربعة عقود ليس من قبيل الصدفه ولكنه نتيجة مشروع منظَّم لتدمير البلد، ربما عجز عن إنجازه حتى عدو أجنبي.
أخيراً، فإن القذافي تعوَّد لسنواتٍ طويله أن يتكلم وُينظِّر وحده فقط والآخرون إمَّا أن يستمعوا صامتين، أو أن يستمع للإطراء من المنافقين من حوله، ولم يتعوَّد الإستماع إلى من ينتقد تخريفه أو مواجهة أكاذيبه بالحقائق، ولهذا بدأ يهاجم الإنترنت التي أتاحت الفرصة للعديد من الوطنيين إيصال الحقائق لأبناء وطنهم وأتاحت للمواطنين الحريه في التعبير عن أنفسهم، فالإنترنت وسيلة إعلامية حرة بديلة خالية من الرقابة إلى درجة كبيرة، وقد علم القذافي نجاعتها في إنجاح الثورة في تونس. الطريقة المتشنجة التي تحدث بها عن ويكيليكس توحي أنه يعلم جيداً أنَّ ما نُشِر حتى الآن لا شيء مقارنة بما سوف يُنشر.
يجب على القذافي أن يتوقف عن محاولات الإستخفاف بالشعب الليبي والعربي، فربما إنخدع البعض منهم في بداية عهده ولكن أكاذيبه لم تعد تنطلي على أحد. لقد إنكشف القذافي أمام الشعب الليبي منذ مدة من الزمن، وإنكشف أيضاً للشعوب العربيه ولباقي شعوب العالم بدرجة أقل، ولكنه تعرَّى تماماً الآن بعد هذا الخطاب. ما يحدث معه حالياً هو بالتحديد ما حدث مع بن علي فكلما أراد الظهور لِيُثبت وجوده وأنه ما زال مسيطراً، كلما إنسحب البساط من تحت قدميه وإزدادت الأرض من تحته ليونة، وضاقت عليه الدنيا وهي بذلك تتسع للشعب الليبي لِيتنفس ويتذوق طعم الحرية التي بدأ يشتمّها الآن على حدوده.
ما زاد إرتباك وتخبّط القدافي الذي كان واضحاً بتشنجه في هذا الخطاب هو أنه بدأ يفقد حتى أقرب المقربين منه، فأحدث وأكبر ضربة تلقاها كانت من مدير مراسمه الذي لجأ إلى فرنسا ولديه الكثير من الأسرار. إذا كان المحيطين به والمتمتعين بمزايا لا حصر لها لم يطيقوا الإستمرار معه فهو يعلم ما يشعر به المواطن المحروم. قلقه الشديد من إندلاع ثورة شعبيه على غرار التي حدثت في تونس تجسد جلياً ببقائه في ليبيا وعدم توجهه إلى القمة الإقتصادية العربية بشرم الشيخ، ومعروف عنه حب الظهور في هذه المناسبات.
أعتقد أن التخلص من طاغية ليبيا لن يكون أصعب مما حدث في تونس، وأعتقد أن ذلك سيكون أسهل بكثير لو كان القذافي خارج الوطن عند إندلاع الإنتفاضه لأنه بذلك سيزول العامل النفسي السلبي الذي تركه في الليبيين مع أن هذا الحاجز بدأ يتكسر بعد نجاح ثورة تونس وإزدياد تخبط القذافي، وأتمنى أن تحدث الإنتفاضة وهو في الوطن كي يُلقى القبض عليه ويُحاكم. في كل الأحوال لا أعتقد أن بإستطاعته الفرار، فرغم وجود الكثير من الأصدقاء لطاغية تونس، فقد تخلى عليه أغلبهم ولم يجد بعد جهد غير السعودية ليلوذ بالفرار إليها، وحتى هذا الخيار غير متوفر لطاغية ليبيا والذي لم يترك لنفسه أي صديق. ربما سيتوجه إلى أدغال أفريقيا، ويبدو أنه كان يُجهِّز نفسه في السنوات الماضيه ليتأقلم بالعيش فيها، هذا بالطبع إن قَبِل إستضافته أحد ملوك قبائلها والذين أعتقد أنهم يتعاملون معه حالياً من أجل الأموال التي يُغدقها عليهم على حساب الشعب الليبي، وأعتقد أنهم سيتخلون عنه كغيرهم.
نحن نؤمن بالعدالة الإلهيه، والحمد لله الذي أرانا نهاية مذلَّة جداً لطاغية تونس كما رأينا نهايات مماثله قبلها، ونحن واثقون ومؤمنون بأن نهاية طاغية ليبيا ستكون أكثر إذلالا.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق