الاثنين، 27 ديسمبر 2010

التجربة الدستورية الليبية في العصر الحديث آمال كبيرة وانتكاسة أكبر

يتردد لدى الكثير ، القول إن الليبيين ليست لديهم تجارب سياسية ، وليس لديهم رصيد وطني ، ولا خبرة لهم بالحياة الدستورية ، ولهذا فإن مجتمع الدولة بمفهومه السياسي ، مسألة مفقودة لديهم .


وقد طغى هذا الظن على ما عداه ، لا سيما عند مثقفي الدول المجاورة ، كمصر وتونس والسوان والجزائر بل وحتى تشاد والنيجر .


وحسب هذا الرأي أن الذي يعرفه الليبيون وفي أحسن الأحوال ، لا يعدو كونه علاقات قبلية محدودة الأفق ، ضيقة النطاق .


أما المصلحة الوطنية والخيارات السياسية / بمعناها المعاصر ، فهي فكرة غير معروفة عندهم ، بخلاف الشعوب المجاورة التي حققت تقدما في هذا المجال ، ولهذا تجد النظام الحزبي في مصر وتونس وتشاد والنيجر ( الدول المجاورة لليبيا ) .


كما أن هذه الدول تقوم على أساس النظام الدستوري ، في حين أن ذلك غير قائم في ليبيا ،وغير متصور قيامه فيها ، في ظل الأوضاع التي فرضها القذافي .


يضاف إلى ذلك أن شعوب الدول المحيطة بليبيا تعرف نظام الانتخابات وتداول السلطة ولو من الناحية الشكلية ، لكنه يمثل قاعدة معترف بها من قبل سلطات هذه الدول . لهذا لا يستحي الرئيس مبارك أو زين العابدين أو بوتفليقة أو إدريس دبي أن يعلنوا أنهم رؤساء منتخبون عن طريق الشعب ، ولا يتحرجون في ذلك.


بل العكس ، أنهم يتفاخرون بذلك . أما في ليبيا فألامر ليس هكذا ، فلا دستور ولا انتخابات ولا تداول للسلطة ، ومن ثم لا نظام ديمقراطي بأي صورة من الصور ، لا من الناحية الشكلية ،


ولا من الناحية الموضوعية ، فلا يوجد برلمان منتخب ، ولسلطة قضائية مستقلة ولا توجد كذلك سلطة تنفيذية مختارة من الشعب ، ومن أجل ذلك يقول هؤلاء بناء على ذلك أنه توجد حتى رائحة الدولة في ليبيا ، فكل شيء ، بيد حاكم فرد .


و السلطات التي لا يجوز أن تجتمع في يد سلطة واحدة نجدها مجتمعة في يد شخص واحد ، وبالأدق فرد واحد . وهذا يؤدي وبالضرورة بهذه البلاد إلى القهقرى إلى عصور الماضي المنزوية ، ولا يمكن أن تكون هناك دولة بهذه الحالة منتمية إلى عالم اليوم .


ويدلل من يقول بهذا الرأي على جملة من الأسانيد والوقائع التي تقطع بصحة ما يقولون ، فمذبحة أبو سليم البشرية الرهيبة ، وغيرها من المذابح البشرية المعلومة والمتكتم عليها ، ما كان يمكن ان تقع في دولة أو مجتمع بدائي ، من دول أو مجتمعات القرون الوسطى ، لكنها وقعت في ليبيا ، وفي نهايات القرن العشرين ومازالت إلى اليوم ، وهذا يقطع أن ليبيا هي " دون مستوى الدولة ودون مستوى المجتمع البدائي " .


فمذبحة في حجم تلك المذبحة البشعة ، لا يمكن لأحد أن يتصور وقوعها ، ليس في دولة بدائية التكوين ، بل حتى في الأقاليم التي تخضع للاحتلال الأجنبي ، إذ لا يمكن ان تحدث فيها مثل هذه الكارثة الأخلاقية ، وأيا كانت المبررات .


ولو افترضنا جدلا ، أو تصورنا وقوع هذه المجزرة في تونس أو تشاد أو مصر أو النيجر – الدول المحيطة بليبيا - لكان الرد عليها من شعوب هذه الدول تلقائيا وفوريا وعنيفا وحاسما وآيا ما كان جبروت أو قوة السلطة القائمة . ولكن الأمر حين يتعلق بدولة كليبيا فمختلف ، لعدم وجود الدولة بمفهومها المعاصر ، " الدولة القائمة على المؤسسات الشرعية " ، ومن ثم عدم وجود القانون الذي يعكس إرادة هذه الدولة ولهذا فإن وقوع مجزرة في حجم وبشاعة مجزرة سجن ابو سليم في ليبيا مسألة ليست بذات أهمية .


وينبني على هذا القول أنه لا مجال للحديث عن معارضة سياسية ولا عن اتجاهات وطنية ، بل أنه إذا افترضنا جدلا وجود هذه المعارضة ، فأنها ستكون بلا جدوى أو فعالية ويكون مصيرها التلاشى بسبب غياب الهدف المشترك واستحالة الاتفاق على موقف سياسي معين ولانعدام الرصيد الفكري والتاريخي لدى تلك المعارضة ، بل أن هذه المعارضة إذا وجدت في ليبيا ، فإنها ستكون ذات نزعة قبلية أو جهوية ، ولن معارضة تكون ذات ميول أو برامج وطنية .


ويمكننا القول أن هذا الرأي أو الاعتقاد يمكن أن يكون صحيحا في جانب كبير منه ، فهو يطابق الواقع الملموس فعلا بالنسبة للمرحلة الراهنة ، ولا ينكر أحد ذلك ، وصحيح أيضا أن الدول المجاورة لليبيا رغم أنها ليست دولا ديمقراطية بالمعنى الصحيح ، لكن لا أحد يتصور أن تقع فيها مذبحة في حجم مذبحة أبو سليم ، لوجود معارضة ذات نزعة وطنية شاملة تتفاعل مع أي حدث يمس المصلحة الوطنية إذا وقع في البلاد ، وأيا كان هذا الحدث ، ولو كان دون مستوى أو حجم " كارثة أبو سليم " . أما إذا كان في مستوى كارثة أبو سليم ، فإن لا أحد يعلم مدى ما ستؤول إليه الأمور ، في هذه الدول ، سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الدولي .


وغالبا ما يكون هذا التفاعل الشعبي تجاه الأحداث المتصلة بالحقوق والحريات العامة تلقائيا ومن الشارع وبدون توجيه أو إثارة من أي جهة كانت ، لأن الأمر يتعلق بكرامة المواطن ، ومن ثم فهو يتعلق الجميع ، لا أحد ينظر إلى قبيلة الضحية ولا إلى لونه أو شكله أوسنه أواتجاهاته الفكرية أوالدينية ، يكفي أنه مواطن .


هناك وقائع معروفة في مصر وتونس والجزائر والنيجر وتشاد ، وكلها تشير إلى أن شعوب هذه الدول لديها من الرصيد السياسي والوطني ،والوعي السياسي ما يجعلها تثور وتندفع وتهيج وتهدد الحكم القائم بالازالة بصرف النظر عن مكانته الوطنية أو تاريخه النضالي إذا ما رأت هذه الشعوب ، أن السلطة القائمة خطت خطوة في الاتجاه المخالف لمصلحة المواطن ، من ذلك مثلا رفع أسعار الخبز ، دراهم معدودات ، وما ترتب عليه من نتائج في مصر وتونس مثلا ، وهو أيضا ما أسقط الحكومات القائمة في ذلك الوقت ، سواء في مصر أو تونس.


ولا يتعلق الأمر في هذه الأحوال ، بإبادة وقتل ألف ومئتي إنسان من المواطنين المعتقلين دون سند ، وإنما بدراهم معدودة تضاف إلى ثمن الخبر .


فماذا لو وصل الأمر إلى هذه الدرجة الفظيعة ، أي درجة الإبادة الجماعية لجمع من البشر ؟


هل تستطع السلطة المصرية أو التونسية أن تواجه الشعب التونسي أو المصري ، إذا أقدمت على ارتكاب تلك المجزرة النكراء ؟ وهل يقبل الشعب التونسي أو المصري من الأساس وقوع مثل تلك المجزرة .


أما في ليبيا فوقعت مجزرة أبو سليم وقبلها وقعت مجازر بشرية معلومة لدى الجميع ، وكذلك بعدها . ولكن على الصعيد الشعبي كأن شيئا لم يقع . وكأن الأمر لا يعني سوى الضحايا وأسرهم وقبائلهم .


وهذا وغيره يفيد إن الشعب الليبي يفتقر إلى الحياة السياسية والدستورية والحزبية ، وتنعدم لديه مظاهر الوعي السياسي ، ومن ثم لا يجوز لأحد أن يطالبه بالمستحيل وهو أن تكون لديه قوى وطنية تسعى لإقامة دولة دستورية مدنية ، مثلما الحال في الدول المجاورة .


يمكن الجزم أن كل تلك الأقاويل هي غير صحيحة وغير دقيقة ، وإنها تقوم على مجرد تخمينات لا أكثر ، ذلك لأن الحركة الوطنية الليبية تعتبر أقدم وأهم الحركات السياسية في أفريقيا وأكثرها نضجا ولهذا ليس صحيحا أن الشعب الليبي يفتقر إلى الرصيد الدستوري أو السياسي ، أو أنه لا يعرف التجارب الدستورية أو الحزبية ، فهذه مغالطة يكذبها التاريخ :


1- ليبيا هي الدولة العربية والأفريقية الوحيدة التي قامت ابتداء كدولة مستقلة ، إنما كان ذلك على اساس دستوري ، إي أن الدولة الليبية المعاصرة هي وليدة الدستور ، ولهذا صدر الدستور الليبي في السابع من أكتوبر 1951 ، وتمت ولادة الدولة وأعلن استقلالها في الرابع والعشرين من ديسمبر .


2- إن ليبيا هي الدولة العربية الوحيدة التي عرفت نظام الجمعية الوطنية التأسيسية الدستورية ، وهي الدولة العربية الوحيدة كذلك التي عرفت نظام الاستفتاء على وجود الدولة وشكل الحكم ، وكذلك هي الدولة الدولة الوحيدة التي عرفت نظام الإشراف الدولي على الانتخابات وعلى الاستفتاء ، وهل ننسى اللجنة الرباعية التي قامت بالاشراف على الاستفتاء ومعرفة آراء المواطنيين بشأن مستقبل ليببيا سنة 1947 .أو ننسى اللجنة المكونة من الجمعية العامة للأمم المتحدة برئاسة إدريان بلت نائب الأمين العام للأمم المتحدة التي قامت بالإشراف على إعداد الدستور الليبي .


3- إن ما حدث بعد إنقلاب أول سبتمبر 1969 هو مرحلة استثنائية عابرة وهو في أي ظرف من الظروف عمل غير شرعي ولا يمكن أن تكون هذه المرحلة هي الحكم أو التعبير عن حقيقة التجربة الوطنية والسياسية والدستورية للشعب الليبي .


وهي التجربة التي يجب علينا إبرازها وتناولها بصورة مفصلة ، حتى لا ينخدع الجيل الحالي بمثل تلك الأقاويل ، ولهذا فإن التجربة الوطنية الدستورية في ليبيا المعاصرة ، ستكون موضوعا للدراسة والتحليل .


علي أبو شنة الغرياني
عن ليبيا وطننا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق